اختفت السماء في ذلك اليوم حجبتْها غيوم سوداء قاتمة مع حلول المساء ومض البرق وقصف الرعد
فزِعت أُمِّي.. قفزت حافية.. أتت بصُرّة الإكليل.. حلّت العُقدة بأسنانها على عَجَل..
وضعت قَبسة من المسحوق في الكانون..أغمضت عينيها.. رفعت يديها إلى السماء..
بدأ الدخان يتصاعد في أرجاء البرّاكة.
2
تساقطت زخّات المطر الأولى..أحدثت دويًّا فوق سطح الصفيح..لمع البرق..ادخلت أُمِّي أصابعها
المرتجفة في الصرّة مرّةً أخرى..هَزّ الرعد أركان الكوخ..وجنبات الوادي..الْتَهَم الكانون مزيداً من الإكليل.
اشتدَّ رَخّ المطر..استمر البرق يضيء..والرعد يُغربل جسد أُمِّي..حتى أتَى على آخر قَبسة من إكليلها
فقلَبت بقايا الصرّة وأخذت تَحتّها فوق الجمْر.
3
في منتصف الليل توقف المطر..كنت أسمع هدير السيل في أَجراف الوادي..وتساقط القطرات من زوايا البرّاكة
ومن الصنوبر المقرور..والجداول المُزغردة عقب الصحو..واختلاجات الأعماق البُور تتشرّب البلَل
ونداءات الذئاب..أكثر المخلوقات فَرحاً بالمطر..ومن بين فَرَجات الغيوم تسلّل القمر..وتبعثر أقماراً في الغدران.
4
... نامت أُمِّي...
منذ زمنٍ كنتُ أنتظر هذا السيل.. وهذه اللحظة بالذات..حين تنام أمي.
أنزلتُ بندقية أبي العتيقة.. التي حارب بها الطليان.. ثم حارب بها الأحباش في (بَرّ الحَبَش)..ثم حارب بها
الحلفاء في (العلَمَين)..خرجتُ بخُطىً حذرة..انحدرتُ نحو الوادي.
البندقية ثقيلة..أخذتُ أُبدّلها بين كتفَيّ..هذا ما تركه لي أبي..منذ الخريف وأنا لا أعرف ماذا أفعل بهذا الإرث
في حين كانت أُمِّي تنظر دائماً إلى البندقية القديمة..المُعلقة في الزاوية إلى جوار قبضة السنابل..
تتنهد طويلاً..وتظل ساهمة.
أشرفتُ على الجُرف..السيل تحتي مباشرة..في هذا المكان يتسع الوادي ويزداد عمقاً.
تحسّستُ البندقية..وزنتها بين يدَيّ..ثم..تركتها تسقط في الهاوية..أَصَخْتُ..حتى سمعتُ صوت الارتطام..
ثم طغى هدير السيل على كل شيء.
بقلم احمد يوسف عقيله